الخرائظ الثقافية
Français
كأنَّ الصحراء أخيرًا… تنفَّست.

في الليالي التي يخفت فيها ضوء المدينة البعيدة، ويهدأ ضجيج الأرصفة في جوف الليل، وتغدو الرياح كأنها ذاكرة شيخ يتلمس أول بيت شعر كتبه في صباه، تتحرك الصحراء في سكون متعال. تنهض كملكة خرجت لتتفقد حدود ملك هو لها وحدها؛ حدود من رمل وأغنية، ومن نور تتقاسمه الشمس مع القمر ساعة الوصال.

هناك، عند الحافة التي تلتقي فيها الأرض بالنجمة الأخيرة، تبدأ الحكاية.

حكاية امرأة ليست من لحم ودم وحسب، بل من رمل يلمع تحت قمر ساكت، ومن روح تشبعت بملح القوافل والقبائل حتى غدت كل ذرة فيها سطرًا من كتاب. ربما هي تلك المرأة التي هام بها عنترة بن شداد:

وخدك كالصبح المنور دونه - سواد العشي الغامق المتصوب

إذا مشت، بسطت الأرض ظهرها تحت قدميها، وارتجفت الحصى احترامًا. لون وجهها يشبه سنا الفجر يلقي ظله في المفاصل، عند أول نظر إلى عيني الشمس؛ حمرة خفيفة كبقايا قبلة خبأتها العذراء بين الوجنتين، وبياض يضيء كلمعان مقلتين تحت خمار أسود.

جلدها يحمل سمرة صقلتها شمس صارت أمًا ثانية، تتولى تربية الملامح بعطف وحزم معًا. لم تكن فاحمة تشوه نعومة النظرة، ولا باهتة تنسي أثر الذاكرة:

سمراء قد ردت إليها عذرها - وبدا الحياء على سنا وجناتها

من يقترب منها يشعر أن لونها طبقة من الوقت تراكمت فوق الطبقات؛ طبقة ألصقت عليها خرائط رحلات قديمة، وحكايات قوافل مرت في صمت لا يبوح إلا إذا سئل بلسان الشغوف. وكأنها زنجية الحارث؛ على لونها آثار ثلاثين قافلة، مزيج من السفر والريح والأيام.

في مشيتها تبختر خفيف لا يعلن التحدي بل يشير إليه تلميحًا. تمشي بخطى موزونة كأن الأرض تمهد الطريق قبل أن يطأها قدمها؛ غيداء مياسة القد، تتأود كالنخلة حين يلامسها نسيم خجول، فيصافحها ويستحي من شدة جمالها. وعلى وجهها ظل من كبرياء، تعرف به هذه الأرض نساءها منذ وجدت.

هي الصحراء.

سيدة المكان والزمان.

سقتها الغمام الغر من مارت العصا - فردت لها ألوان ما كان يصبغ

حارسة الفراغ العميق الذي يتسع لكل ما ضاق في صدور الناس. تعرف الرجال؛ تميز الذي يشتهي جسدها فيقضم مترًا هنا أو يبني برجًا هناك، والذي يغريه سرها فيترك على صدر كثيبها بيتًا من شعر ثم يغادر، يظن أنه كتب السر، ولا يدري أن السر لا يكتب في بيت واحد ولا يمسك بلغة واحدة.

إلا أنها قلما رفعت رأسها لرجل نظر إليها تلك النظرة التي تنتظرها كل أنثى في آخر الليل؛ نظرة لا تشبه رغبة امتلاك ولا فضول اكتشاف، بل امتلاء حضور وتوق يشبه الوعد، واتساع يقاوم الضيق. الريح تعرف هذه النظرة حين تأتي من بعيد، والصحراء تعرفها حين تهطل في العينين.

حتى جاء المسرح.

جاء كما لو كان يعرف الطريق منذ ولادته؛ ليس قافلة تبحث عن ظل، ولا مسافرًا يعبر ويلوح للمكان قبل الرحيل. كان رجلًا عربي الملامح، محفور الوجه من شمس مرت على خيام المؤانسة والليل. في صوته بحة من غنى للشجن عند موقد نار في برد العراء، وفي جبينه أثر حكمة تشكلت عند حواف القص.

كتفاه خشبتان نحتتهما الليالي؛ إذا قام اهتزت النظرات نحوه كما تهتز الكثبان حين يهب العجاج. ملامحه ليست وسامة ترى وتنسى، بل شهامة مخلوطة بوجع جميل. عيناه تلمعان كالليل إذا اختزنه شاعر في جيب القصيدة، وفي حاجبيه ظل بيت شعر يستف ترب الأرض كي لا يرى له عليه من القوم الجلوس مجالس.

يمشي الهوينى كأن الأرض تخشاه؛ لا تكبرًا، بل لأنه يعرف أثر خطواته على قلوب المشاهدين. صوته خشب وصدى، يتلو على الهواء نصوصًا تتفلت معانيها كما تتفلت الخيول من عقالها. وإذا غضب ارتفع الصوت كالسيف.

حين اقترب ذلك الرجل من الصحراء في أول ليلة، رأته وهي تخفي رعشة خفيفة تحت عباءتها الرملية. كان يشعل حول خصرها موسيقى تشبه الرقص بالأودية، ويرفع الستائر كما ترفع يد العاشق ملاءة الحياء عن خد خجول.

فما كان منها إلا أن أصغت.

مرت ليال عديدة وهو على أطرافها؛ قرأ عليها نصوصًا يتمايل معها الرمل، قصائد عن شنقيط طورًا، وتارة قصائد عن لبنان دامية تغلي. كان يضحك فتتشقق الأرض كفم وجد فرحه، ويبكي فتنكمش الكثبان كما تنكمش قلوب العذارى في وداع فارس. وكل ليلة، كانت الصحراء تخبئ رعشة جديدة تحت ثوب القمر. قاومت .. وفكرت.. وشكت.. ثم استسلمت..

فمالت طروبًا للقريض برأسها

يمينًا على مهل، يسارًا على مهل

لكن المرأة العربية لا تعترف بالحب بسهولة.

والعاطفة عندها سيف مسلط؛

إن خرج لا يعود بلا أثر.

وتاريخها يحرم أن يقال إنها مالت… لو مالت السماوات كلها معها.

غير أن العشق حين يستوي في صدرها، يجعل الرمال نفسها تتسامى، ويحرك في الأعماق ماءً جافًا ظنه الناس عظمًا ميتًا. وبين خوفها من المدينة التي تزحف على صدرها كوحش من إسمنت، وحنينها لرجل يقرأ صمتها كما تقرأ خرائط النجوم، تمتمت وقالت: "على اسم الله… أمرك طاعة"، وكتبت رسالتها ثم خبأتها في قلب كثيب بعيد.

لكن الريح — تلك الخفيفة المشاكسة — خانتها في تلك الليلة، وسربت الرسالة إلى الرواة الذين يجمعون الحرف كما يجمع الرعاة ضوء القمر في حدقاتِ نعاجهم، يمررونه من قطيع إلى آخر حتى يتخمّر في عين الساهر.

وكان نصها كما وجدوه بين حبات الرمل:

إلى المسرح،

يا رجل الضوء، يا صدر القصص، يا خشبة صارت قدرًا:

أكتب إليك الآن والليل يحرس كتفي كفارس يقف على باب خيمة عروس.

أعترف…

حين وقفت أول مرة أمامي،

تلعثمت كما يتلعثم قلب إذا خاف شيئًا تلجلج، ولم أعرف أن الرمل يرتجف من وقع قدمي رجل يعرف كيف يقول.

قبلك مر الرقص والغناء، ونقوش حفرت على ضلوعي، لكن أحدًا لم يفتح في صدري خشبة عرض تنتظر المشهد الأخير.

إذا غبت،

شحب وجهي وانطفأت النجوم كأن العرض انتهى، وتحول الليل إلى جلد باهت لا ينجلي؛

كأن نجومه شدت بيذبل، وإن انجلى فما الإصباح منه بأمثل.

وإذا عدت،

عاد الضوء وعادت الموسيقى، وعاد الجمهور يصفق في عروق الرمال كما تصفق القلوب عند أول قطرة مطر.

أنا أحبك.

كما لا تحب الصحراء أحدًا، إلا من يفهم سر صمتها، وعلم صداها، ورعشة الليل إذا مر به الحنين.

تعال…

ولن أسمح للمدينة أن تزحف إلى صدري، ولا للإسمنت أن يقتل هواء العرض، ولا للضوضاء أن تطفئ رقص الظلال.

ابق.

فأنا صحراؤك… وأنت مسرحي الوحيد.

هكذا انتهت الرسالة.

والرواة يقولون:

في تلك الليلة…

ارتجفت الكثبان مرة،

ثم هدأت،

وكأن الصحراء أخيرًا… تنفست.


عبد الرحمن لاهي — يناير 2023

بعد عرض مسرحية "منت البار"