الخرائظ الثقافية
Français
الاقتصاد الإبداعي و رأس المال الثقافي داخل الأسواق الناشئة


يشير مصطلح الاقتصاد الإبداعي إلى المنظومة الاقتصادية التي تعتمد على الإبداع والابتكار ورأس المال الفكري والثقافي كعناصر رئيسية للإنتاج والنمو. وهو لا يقتصر على الفنون فحسب، بل يشمل أيضًا قطاعات مثل التصميم، وصناعة المحتوى الرقمي، والإعلان، والنشر، وصناعات الألعاب، والهندسة المعمارية، والأزياء، وغيرها من الأنشطة القائمة على الإبداع.

وقد ظهر مفهوم الاقتصاد الإبداعي بشكل بارز في بداية الألفية الجديدة، تحديدًا في تقرير "وثيقة رسم خريطة الصناعات الإبداعية" والذي وضع لأول مرة تصنيفًا للقطاعات الإبداعية كمحرك اقتصادي قائم بذاته. ثم تبنته لاحقًا منظمات دولية كاليونسكو، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية. البنك الدولي، والعديد من الحكومات الوطنية، ليصبح أحد المفاهيم المحورية في سياسات التنمية الثقافية والاقتصادية.

في عام 2021، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تلك السنة ستكون "العام الدولي للاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية المستدامة"، وهي سابقة تسلط الضوء على مكانة هذا القطاع كقوة دافعة للتنمية البشرية الشاملة، خاصة في ظل الأزمات المتعددة مثل الجائحة وتغير المناخ. وقد أوكلت مهمة تنسيق هذا العام إلى مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، بالشراكة مع اليونسكو وجهات أخرى.

وتشير التقديرات إلى أن الاقتصاد الإبداعي يساهم اليوم بأكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويشغّل عشرات الملايين من الأشخاص، وهو بذلك يمثل أسرع القطاعات نموًا في العالم من حيث خلق فرص العمل والدخل، وفقًا لتقرير "آفاق الاقتصاد الإبداعي " الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية سنة 2022.

ومن السمات المميزة للاقتصاد الإبداعي كونه قائمًا على مورد لاينضب، وهو الخيال البشري، على عكس الصناعات التقليدية المرتبطة باستهلاك الموارد الطبيعية. كما أنه يتمتع بمرونة عالية وقدرة على التكيف مع التحولات الرقمية والتكنولوجية، مما يجعله أكثر قابلية للنمو المستدام والمتجدد.

في هذا الإطار، يعتبر الاقتصاد الإبداعي أيضًا محفزًا لما يسمى بـ التنمية المتمحورة حول الإنسان، لأنه يعزز التعبير الثقافي، ويولد الهوية والانتماء، ويخلق روابط مجتمعية أكثر تماسكًا. ولذلك، تُدرجه العديد من سياسات التنمية ضمن آليات تقوية رأس المال الثقافي والمجتمعي.

ويجدر التنويه بأن الاقتصاد الإبداعي لا ينمو بشكل عفوي، بل يتطلب بيئة داعمة تشمل السياسات العامة، والتعليم الفني، وحماية حقوق الملكية الفكرية، وتسهيل التمويل، والبنية التحتية الرقمية والثقافية، وهو ما يجعله حقلًا متعدد الأبعاد يتقاطع فيه الثقافي والاقتصادي والتعليمي والتقني.

التمويل المدمج وأبعاده التطبيقية في دعم الصناعات الثقافية والإبداعية

التمويل المدمج وسياقه العام

يُعرف التمويل المدمج بأنه "الاستخدام الاستراتيجي للتمويل التنموي ومنح تمييز لتحفيز تدفق رأس المال الخاص نحو مشاريع التنمية المستدامة، خاصة في الأسواق الناشئة" ، ويعتمد هذا النموذج على الجمع بين أدوات مالية مختلفة – عامة وخاصة – بغرض تقليل المخاطر وجعل المشاريع ذات التأثير الاجتماعي أو الثقافي أو البيئي أكثر جاذبية للمستثمرين.

ظهر أول استخدام ممنهج للمصطلح في أدبيات التنمية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، لكنه بدأ يترسخ بوضوح بعد إطلاق أهداف التنمية المستدامة في 2015، حين تم تقديمه كأحد الحلول الإبداعية لتقليص الفجوة التمويلية التي تفوق 2.5 تريليون دولار سنويًا في البلدان النامية .

لماذا التمويل المدمج وماهي التحديات التي يسعى لحلها

تكمن أهمية التمويل المدمج في قدرته على التغلب على عدد من التحديات البنيوية التي تعوق تدفق رؤوس الأموال نحو القطاعات غير التقليدية، مثل الصناعات الثقافية والإبداعية رغم نموها السريع عالميًا.

فحين نتأمل أسباب تردد البنوك والمؤسسات المالية في تمويل المشاريع الثقافية والإبداعية، ندرك أن المسألة لا تتعلق بغياب الأموال فحسب، بل بطبيعة التصور العام لطبيعة هذه المشاريع. فالمستثمر، حين يتقدّم إليه صاحب فكرة مسرحية أو فيلم أو تطبيق رقمي، يواجه أولًا غياب الضمانات التقليدية التي تشترطها المؤسسات المالية. فالبنك يبحث عن عقار أو أصل ثابت يُسجَّل كضمان، بينما الأصول الثقافية والإبداعية بطبيعتها غير ملموسة، رغم أنها قد تُحقق أرباحًا كبيرة إذا ما وجدت البيئة المناسبة للنجاح.

ويظهر بعد ذلك ضعف البيانات الاقتصادية الدقيقة، إذ تفتقر معظم الأسواق الناشئة إلى قواعد بيانات منظمة توضح حجم مساهمة الصناعات الثقافية في الناتج المحلي أو نسب النمو والمخاطر. هذا النقص يجعل المستثمر يرى في الدخول إلى هذه القطاعات مغامرة محفوفة باللايقين.

أما على مستوى التصورات، فما زالت هناك نظرة سلبية إلى جدوى وربحية الاستثمار الثقافي، خصوصًا في البيئات الهشة أو النامية التي تمنح الأولوية للبنى التحتية أو القطاعات التقليدية. ينظر كثيرون إلى الثقافة على أنها نشاط ثانوي أو ترفي، وهو ما يبعد المستثمرين عن رؤية الإمكانات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة الكامنة فيها.

ويضاف إلى ذلك غياب آليات تقييم الأثر بصورة دقيقة ومقنعة. ففي حين يمكن قياس المردود المالي بالأرقام والإيرادات، يبقى من الصعب ترجمة الأثر الثقافي والاجتماعي إلى مؤشرات كمية واضحة: كيف يمكن حساب قيمة فيلم غيّر صورة مجتمع عن نفسه؟ أو مسرحية منحت الشباب ثقة جديدة؟ إن هذه الأبعاد لا تجد طريقها بسهولة إلى تقارير المستثمرين، فيظل الإقناع ناقصًا.

وهنا تبرز أهمية التمويل المدمج، الذي يتميز بقدرته على معالجة هذه التحديات البنيوية وفتح مسارات جديدة لتدفق رؤوس الأموال نحو الصناعات الثقافية والإبداعية. فهذا النوع من التمويل يستجيب مباشرة لمعضلات القطاع، إذ يساعد على تعويض نقص الضمانات التقليدية، ويوفر أدوات لتخفيف المخاطر في ظل ضعف البيانات، ويعيد صياغة صورة الربحية والجدوى بما يتجاوز التصورات النمطية، كما يتيح تطوير آليات لقياس الأثر الاجتماعي والثقافي بطريقة أكثر دقة وإقناعًا ويتدخل لتخفيف هذه التحديات عبر تقديم أدوات مثل الضمانات، أو التمويل بشروط ميسرة، أو الامتيازات الضريبية، مما يسمح للتمويل التجاري بالمشاركة دون تحمل كامل المخاطر.

نطاق السوق وحجم الإمكانات

تشير التقديرات إلى أن حجم سوق التمويل المدمج يتراوح ما بين 18 و70 مليار دولار، بحسب تنوع المنهجيات وتعريف المصطلح وندرة البيانات في بعض الأحيان. إلا أن تقريرًا صادرًا عن مؤسسة "كونفيرج" يُبرز أن هذه التقديرات لا تعكس بدقة الإمكانات الحقيقية، إذ إن معظم العمليات لا يتم توثيقها علنًا، خاصة في الشراكات المتعددة الأطراف أو المشاريع الصغيرة.

تحوّلات هيكلية تشجّع التوسع

تشهد منظومة التمويل المدمج اليوم تحولات جوهرية تجعل منه خيارًا أكثر واقعية وقابلية للتطبيق في القطاعات غير التقليدية، ومنها الصناعات الثقافية والإبداعية. فقد بدأت تظهر أدوات معيارية لتوزيع المخاطر تسمح بتقاسم الأعباء بين الممولين العموميين والفاعلين الخواص بطريقة أوضح وأكثر شفافية . كما طوّرت الجهات المانحة استراتيجيات جديدة تشجع على إقامة شراكات عملية مع القطاع الخاص، بدلًا من الاعتماد الحصري على المنح المباشرة . وإلى جانب ذلك، ساهمت الأدوات الرقمية المتقدمة في تحسين التقييمات وقياس الأثر الاجتماعي والثقافي بشكل أكثر دقة وإقناعًا، الأمر الذي يعزز ثقة المستثمرين. وأخيرًا، أُقِرّت أطر تنظيمية أكثر مرونة تسمح باختبار نماذج تمويلية هجينة تجمع بين الأدوات التقليدية والممارسات المبتكرة ، ما يفتح المجال أمام توسيع نطاق التجارب وتعزيز فرص النجاح.

تدعو هذه التحولات المؤسسات المالية والبنوك إلى تجاوز المقاربة الصفقة-بصفقة والانخراط في بناء بيئة متكاملة عالية التأثير كما يشير تحليل شركة ماكينزي.

دور البنوك والمؤسسات المالية

يمكن النظر إلى المؤسسات البنكية باعتبارها طرفًا ممولًا في صفقات التمويل المدمج، كفاعل قادر على إعادة تشكيل قواعد اللعبة بأكملها. فبدلًا من الاكتفاء بالانخراط في مبادرات قائمة، يمكن للبنوك أن تتبنى موقع القيادة الاستراتيجية في هذا السوق الناشئ، وتضع الأسس التي تجعل من التمويل المدمج أداة مستدامة وفعّالة على المدى الطويل.

أول عناصر هذه القيادة هو توضيح الأدوار وتقسيم المخاطر. ففي كثير من المبادرات السابقة، عانى المستثمرون من غياب الشفافية في تحديد ما يتحمله كل طرف من المخاطر والعوائد. من خلال وضع هياكل استثمارية واضحة، يمكن للبنوك أن توفر الثقة للمستثمرين الخواص، وتطمئن الجهات المانحة في آن واحد إلى أن استثماراتها التحفيزية تحقق الغرض المرجو.

العنصر الثاني يتمثل في بناء القدرات الداخلية فالتمويل المدمج يتطلب مهارات خاصة لا تتوافر دائمًا في الهياكل التقليدية للبنوك. ومن هنا، يصبح الاستثمار في التدريب المستمر للكوادر، وتطوير أنظمة الحوكمة الداخلية، خطوة ضرورية. هذا الاستثمار في رأس المال البشري يمكّن البنوك من التعامل بكفاءة مع مشاريع غير تقليدية، مثل الصناعات الثقافية والإبداعية، التي تحتاج إلى قراءة مختلفة عن المشاريع الصناعية أو التجارية المعتادة.

أما العنصر الثالث فهو ابتكار منتجات مالية جديدة فلا يكفي الاعتماد على أدوات التمويل التقليدية كالقروض المباشرة أو الاعتمادات البنكية، بل يجب تطوير منتجات مصممة خصيصًا للقطاعات ذات الطابع غير الملموس. يمكن أن تشمل هذه المنتجات صناديق استثمارية متخصصة، أدوات دين مرتبطة بالأداء الثقافي والاجتماعي، أو آليات تمويل قائمة على الملكية الفكرية.

وبذلك، تتحول البنوك من مجرد مشارك في سوق التمويل المدمج إلى قاطرة تقود هذا السوق نحو نضج أكبر، وتفتح المجال أمام تدفقات مالية أكثر استقرارًا وعمقًا. هذه النقلة النوعية ستخدم المؤسسات المالية ذاتها، وتعزز أيضًا فرص استدامة القطاعات الثقافية والإبداعية، وتمنحها موقعًا متقدمًا في استراتيجيات التنمية الشاملة.

ارتباط التمويل المدمج بالصناعات الثقافية والإبداعية

تُعد الصناعات الثقافية والإبداعية أحد أبرز المجالات التي يمكن للتمويل المدمج أن يعزز حضورها، نظرًا لطبيعتها المتداخلة مع الأثر الاجتماعي والثقافي. ويمكن لهذا النوع من التمويل أن يعالج أحد أكبر التحديات التي تواجه هذه الصناعات: "العجز في التمويل طويل الأمد والمنخفض التكلفة القادر على دعم الابتكار المحلي" وقد بدأت مبادرات عديدة تأخذ هذا المنحى، كما في حالة برنامج "الإبداع، الثقافة ورأس المال" (CCC) الذي أُطلق سنة 2021 بمناسبة السنة الدولية للاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية المستدامة

دراسات حالة

توسيع منظور التأثير الثقافي عبر التمويل المدمج

بدأت العديد من المبادرات الدولية مؤخرًا في اختبار سبل مبتكرة لاستخدام التمويل المدمج لدعم المشاريع الثقافية والفنية، من زاوية الربحية وعبر تعزيز الأثر الاجتماعي والإدماج الثقافي في مجتمعاتها. ويمثل هذا التوجه استجابة مباشرة لدعوات المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة واليونسكو، إلى اعتبار الاقتصاد الإبداعي رافعة أساسية للتنمية المستدامة في الدول النامية

مبادرة "التمويل الثقافي والفني" بالمملكة المتحدة

تُعد المبادرة، التي أُطلقت في بريطانيا، واحدة من أبرز التجارب في هذا المجال. وقد موّلت منذ نشأتها أكثر من 30 مشروعًا إبداعيًا، مستخدمة مزيجًا من القروض الميسرة والمنح المخصصة من مؤسسات خيرية كبرى. وتميزت هذه المبادرة بتطبيق أدوات مالية هجينة، وتبني منهجية دقيقة في قياس الأثر الثقافي والاجتماعي، من خلال مؤشرات تراعي السياقات المحلية والخصوصيات الثقافية. وقد أثبتت التجربة أن المؤسسات الفنية قادرة على سداد القروض إذا ما حصلت على شروط تمويل عادلة تتناسب مع طبيعة تدفقاتها النقدية غير المنتظمة .

. مشروع "الإبداع، الثقافة، ورأس المال" – مبادرة دولية مشتركة

في عام 2021، تم إطلاق مبادرة, (CCC) بشراكة بين ثلاث جهات رئيسية:

• Arts & Culture Finance (المملكة المتحدة)

• Upstart Co-Lab (الولايات المتحدة)

• Fundación Compromiso (الأرجنتين)

وجاء المشروع بدعم من المجلس الثقافي البريطاني، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، ومنصة SOCAP، ومجموعة التوجيه العالمية للاستثمار المؤثر، وقد جاء إطلاق المشروع تزامنًا مع إعلان الأمم المتحدة عام 2021 "سنة دولية للاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية المستدامة".

تمثل أبرز إنجازات المبادرة في عرض 100 مبادرة تأثيرية من الاقتصاد الإبداعي العالمي، مع تسليط الضوء على النماذج التمويلية المبتكرة التي تم استخدامها، بما في ذلك الصناديق الدوارة ، وآليات الضمانات الجزئية ، وبرامج التمويل المرحلي

تجارب أوروبية ناشئة: مجتمع الممارسة الثقافية في الاستثمار المؤثر

بدأ يتشكل داخل أوروبا ما يمكن تسميته بـ"مجتمع ممارسة" في مجال الاستثمار المؤثر الثقافي، تحت إشراف منظمة MitOst الألمانية، التي تدير أيضًا شبكة "تاندم الثقافية" وتساهم هذه الشبكة في ربط المبادرات المحلية في أوروبا الشرقية والجنوبية بأطر تمويل عالمية، مع تمكين المؤسسات الفنية الصغيرة من بناء قدرات تمويلية.

كما بدأت منظمات مثل (الرابطة الأوروبية للعمل الخيري الاستثماري) و (شبكة العمل الخيري الاستثماري في آسيا)، و(المجموعة العالمية للاستثمار المؤثر)، بتضمين الثقافة والإبداع ضمن أجندتها التمويلية وبرامجها التدريبية، وشكل ذلك اختراقًا مهمًا في تغيير نظرة القطاع المالي التقليدي إلى المجال الثقافي.

نقاط مشتركة بين المبادرات

يمكن القول إن التجارب الناجحة في مجال التمويل المدمج الثقافي، رغم اختلاف البيئات التي نشأت فيها وتباين السياقات الجغرافية والاقتصادية، تكشف عن خيط مشترك يربطها جميعًا. فهي تعتمد على أدوات مالية مرنة تتجاوز النماذج التقليدية، حيث يجري المزج بين المنح لدعم الانطلاق، والقروض منخفضة الفائدة لتأمين الاستمرارية، والضمانات الجزئية لتخفيف المخاطر عن المستثمرين وهو المزج الذي منح المشاريع الثقافية فرصة للنمو في بيئات عادةً ما يُنظر إليها على أنها عالية المخاطر وضعيفة الجدوى.

ولا يتوقف الأمر عند حدود العوائد المالية، إذ تسعى هذه المبادرات إلى قياس الأثر بشكل أوسع، بحيث يشمل مؤشرات اقتصادية مثل الإيرادات والوظائف، وأيضًا آثارًا اجتماعية وثقافية ومجتمعية، مثل تعزيز الهوية المحلية أو إتاحة فرص مشاركة أوسع للفئات المهمشة.

ومن السمات الجوهرية الأخرى دعم التمكين المحلي، إذ تُكيّف النماذج التمويلية لتستجيب لاحتياجات المجتمعات الثقافية التي تستهدفها، فلا تُفرض آليات جاهزة، بل تُطوّع بما ينسجم مع الخصوصيات المحلية.

وقد اتسمت هذه المبادرات بقدرتها على بناء جسور بين القطاعين العام والخاص فخلقت بيئة مشتركة يتقاسم فيها الطرفان الأدوار، وحفزت المؤسسات المالية على دخول القطاع الإبداعي عبر أدوات تقلل المخاطر وتجعل الاستثمار في الثقافة والإبداع خيارًا مقنعًا ومجديًا.

نماذج تمويلية مبتكرة للصناعات الثقافية – من التجريب إلى الاستدامة

من التبعية إلى الابتكار التمويلي

على مدى عقود، اعتمدت المؤسسات الثقافية بشكل رئيسي على التمويل العام أو منح الجهات الخيرية. غير أن هذه النماذج التقليدية باتت تواجه تحديات خطيرة، في ظل التراجع المتزايد للميزانيات العمومية، والتحولات في أولويات الدعم الخيري. لذا برزت الحاجة الملحة إلى البحث عن نماذج تمويلية جديدة تتسم بالاستدامة، وتحفز مشاركة القطاع الخاص، وتحتفظ في الوقت نفسه بجوهر الرسالة الثقافية والاجتماعية لهذه المؤسسات والتمويل المبتكر هنا لا يعني مجرد تنويع مصادر التمويل، بل إعادة تصور العلاقة بين الثقافة، والمجتمع، والسوق، من خلال أدوات مالية ذكية تحترم الإبداع وتستجيب لتقلباته.

. نماذج التمويل المدمج في السياق الثقافي

أظهرت التجارب الميدانية أن التمويل المدمج ليس مجرد آلية مالية تقنية، بل هو أداة استراتيجية قادرة على فتح مسارات جديدة أمام المؤسسات الثقافية والفنية التي طالما عانت من ضعف الوصول إلى رأس المال. فهو يجمع بين المنح والمساعدات التنموية من جهة، والاستثمارات الخاصة من جهة أخرى، في صيغة تمويلية هجينة تتيح للمشاريع الثقافية أن تتجاوز العقبات التقليدية التي تعيق نموها.

ويُعرَّف التمويل المدمج بأنه "الاستخدام الاستراتيجي للتمويل التنموي والمنح الخيرية لتعبئة رؤوس الأموال الخاصة باتجاه مشاريع ذات أثر تنموي في الأسواق الناشئة". وبهذا المعنى، فإن أهميته تكمن في خلق بيئة تمكينية تُعيد تعريف العلاقة بين المال والثقافة، بحيث تتحول الثقافة من قطاع يُنظر إليه على أنه عالي المخاطر وضعيف الجدوى، إلى مجال استثماري واعد قادر على تحقيق عوائد اقتصادية واجتماعية في آن واحد.

وقد برزت في هذا الإطار عدة آليات عملية أثبتت جدواها في المجال الثقافي:

القروض منخفضة الفائدة : تُمنح بشروط ميسرة، مما يخفف عبء السداد على المؤسسات الإبداعية ويمنحها هامشًا أوسع للتحرك والاستثمار في الإبداع بدلًا من الانشغال بالديون الثقيلة.

الضمانات الجزئية: تتيح للجهات المانحة تغطية جزء من الخسائر في حال تعثر المشروع، مما يقلل المخاطر على المستثمرين ويشجعهم على دخول قطاع لم يكونوا ليفكروا فيه من قبل.

رأس المال التحفيزي : يُضخ عادةً من مؤسسات خيرية أو هيئات حكومية، ليعمل كجرعة أولى محفزة تجذب استثمارات لاحقة من القطاع الخاص، ويُظهر أن المشروع قد حصل على ثقة جهة عامة أو خيرية موثوقة.

هذه الآليات حولت التمويل المدمج إلى سياسة تمكينية تفتح الباب أمام استدامة المشروعات الثقافية، وتخلق جسورًا جديدة بين الثقافة والاقتصاد، وبين المبادرات الإبداعية ورؤوس الأموال الباحثة عن أثر يتجاوز الربح المالي البحت.

نماذج التمويل القائم على الأثر

في السنوات الأخيرة، بدأنا نشهد تحوّلًا نوعيًا في كيفية تمويل المشاريع الثقافية والإبداعية، إذ لم يعد التركيز ينحصر على المردود المالي المباشر فقط، بل اتجهت الأنظار نحو الأثر الاجتماعي والثقافي الذي تُحدثه هذه المشاريع في المجتمعات. هذا التحوّل ولّد نماذج جديدة من التمويل تقوم على مبدأ أن الثقافة ليست مجرد سلعة قابلة للبيع، بل هي أداة تغيير وتحويل اجتماعي واقتصادي.

ومن أبرز هذه النماذج:

السندات الاجتماعية : تقوم فكرتها على ربط عوائد المستثمرين بتحقيق نتائج اجتماعية أو ثقافية محددة مسبقًا. على سبيل المثال، إذا استهدف برنامج تمويل زيادة نسبة المشاركة الثقافية في الأحياء المهمشة، فإن المستثمر لا يسترد أمواله ولا يحقق عائدًا إلا إذا تحققت هذه النتيجة على أرض الواقع. هذا النموذج يجعل الاستثمار أكثر ارتباطًا بالأثر الفعلي، ويحوّل رأس المال إلى أداة لتحقيق أهداف ملموسة مثل التعليم الإبداعي أو الإدماج المجتمعي.

صناديق الاستثمار المؤثر الثقافي: تُعد هذه الصناديق منصات متخصصة لدعم المشاريع الفنية ذات الطابع المجتمعي. من الأمثلة البارزة صندوق Upstart Co-Lab في الولايات المتحدة، الذي يوجّه استثماراته نحو التصميم، وصناعة الأفلام، والفنون الحرفية، مع الحرص على أن تكون هذه المشاريع ذات قيمة اجتماعية مضافة، سواء من حيث تمكين المجتمعات المحلية أو تعزيز الهوية الثقافية.

التمويل القائم على الإيرادات المستقبلية: يوفر هذا النموذج بديلًا مرنًا عن القروض التقليدية. بدلًا من سداد دفعات ثابتة، يقوم المشروع الثقافي بتسديد نسبة محددة من إيراداته المستقبلية. هذه الصيغة تمنح المشاريع ذات الدورة النقدية المتذبذبة – مثل المسارح أو منصات البث الثقافي – فرصة للنمو دون أن تثقلها التزامات مالية قاسية في فترات الركود.

إن التمويل القائم على الأثر يعيد رسم حدود العلاقة بين المال والثقافة ، و يفتح مسارات جديدة تجعل الاستثمار الثقافي أكثر ارتباطًا بالقيم الإنسانية والتنمية المجتمعية. فهو يتيح للثقافة أن تتحول من نشاط "غير ربحي" في نظر كثيرين، إلى مجال استثماري يوازن بين الجدوى الاقتصادية والأثر الاجتماعي طويل المدى.

نماذج التمويل التشاركي والجماهيري

أثبت التمويل الجماهيري قدرته على دعم المشاريع الثقافية، كمصدر تمويلي، و كوسيلة لبناء جمهور متفاعل ومنخرط في عملية الإنتاج الثقافي. ومن أبرز أنواعه:

• التمويل القائم على المكافآت حيث يحصل المساهمون على منتج إبداعي أو امتياز رمزي.

• التمويل القائم على الأسهم حيث يحصل الممول على حصة في المشروع أو المؤسسة.

• التمويل القائم على الدين حيث يسدد المشروع لاحقًا القرض بمعدلات فائدة منخفضة.

وقد لوحظ أن المنصات الناجحة في هذا المجال مثل Kickstarter أو Ulule أصبحت تلعب دورًا موازيًا للمؤسسات الثقافية التقليدية، من حيث الترويج والمشاركة والتمويل في آن معًا.

التمويل عبر الرموز الرقمية والبلوك تشين

مع تسارع التحولات الرقمية وتعمق النزعة نحو اللامركزية، برزت تقنيات البلوك تشين والرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs) كأدوات قادرة على إعادة تشكيل علاقة الفنان بالمؤسسة والجمهور على حد سواء، فلم تعد الملكية الفنية حكرًا على المعارض التقليدية أو دور المزادات الكبرى، بل بات بالإمكان أن تُوثَّق ملكية العمل الإبداعي على سلسلة الكتل، بحيث تُسجل بشكل شفاف ودائم، ويصبح العمل قابلًا للتداول دون وسيط.

واحدة من أبرز التجليات هي المعارض الافتراضية الممولة عبر رموز NFT، حيث يعرض الفنانون أعمالهم في فضاءات رقمية ثلاثية الأبعاد، ويبيعونها مباشرة للجمهور على شكل رموز رقمية فريدة. فالمشتري يقتني صورة ويملك شهادة رقمية غير قابلة للتلاعب تثبت ملكيته للعمل.

أما على مستوى التمويل الجماعي، فقد ظهرت الصناديق اللامركزية الثقافية، وهي كيانات رقمية يديرها مجتمع من المهتمين بالفن والإبداع عبر آلية تصويت جماعي. يمكن لمجموعة من الفنانين والمهتمين أن يؤسسوا صندوقًا لدعم مشاريع محددة، ويشارك الأعضاء في اتخاذ القرار بشأن كيفية توزيع الموارد لتعزيز الطابع الديمقراطي والاستقلالي للتمويل الثقافي.

ومن النماذج اللافتة أيضًا العقود الذكية، التي تتيح للفنان الحصول على عائد تلقائي في كل مرة يُعاد فيها بيع عمله الفني رقميًا. فبدلًا من الاكتفاء بربح أول عملية بيع كما هو الحال في السوق التقليدية، يظل الفنان شريكًا في القيمة المتزايدة لعمله مع مرور الوقت لضمان دخل مستديم.

من هنا تحول التمويل عبر البلوك تشين من مجرد تقنية رقمية إلى ثورة في نماذج الملكية والتوزيع والتمويل الثقافي، تعيد للفنان استقلاليته، وتفتح أمامه آفاقًا جديدة للتفاعل المباشر مع جمهوره، بعيدًا عن قيود السوق التقليدي.

التمويل عبر الشراكات متعددة الأطراف

في مسار البحث عن نماذج تمويلية أكثر استدامة للثقافة، برز التمويل عبر الشراكات متعددة الأطراف باعتباره أحد أكثر الصيغ قدرة على الصمود وتحقيق التوازن بين الطموحات الإبداعية والاعتبارات الاقتصادية. تقوم هذه الصيغة على توزيع الأدوار والمسؤوليات بين ثلاثة أطراف أساسية، لكل منها قيمة مضافة متميزة.

فالجهات الحكومية تضطلع عادةً بتوفير الأرض، أو البنية التحتية الأساسية، أو الغطاء القانوني الذي يمنح المشروع شرعية واستقرارًا. وهو دور محوري لتسهيل العمل وتجاوز التعقيدات البيروقراطية التي قد تُعيق المبادرات الفردية أو الأهلية.

أما الجهات المانحة – سواء كانت مؤسسات تنموية أو صناديق خيرية – فتتدخل لتأمين التمويل الأساسي أو لضمان القروض، لتقليل حجم المخاطر الملقاة على عاتق المستثمرين. فهي بمثابة جسر أمان أولي، يُشجع رؤوس الأموال الخاصة على الدخول في مجالات كانت تُعتبر في السابق محفوفة باللايقين.

في المقابل، تأتي الجهات الاستثمارية، سواء من القطاع الخاص أو من مؤسسات شبه حكومية، لتشارك في التنفيذ والتشغيل، على أمل تحقيق عائد طويل الأجل، وبالتالي يصبح المشروع الثقافي استثمارًا منتجًا قائمًا على منطق الجدوى الاقتصادية إلى جانب الأثر الثقافي.

وقد أثبتت التجارب أن هذا النوع من الشراكات يُعيد صياغة العلاقة بين القطاعات الثلاثة، إذ يكرّس تكامل الأدوار بدلًا من تضاربها، ويوفر نموذجًا عمليًا يوازن بين الطابع العام للمبادرة والبعد التجاري للاستثمار. من أبرز الأمثلة على ذلك تجربة تحويل مبانٍ صناعية مهجورة إلى مساحات فنية مدرة للدخل، حيث تضافرت جهود السلطات المحلية مع الدعم الدولي ورأس المال الخاص، فتحولت أماكن كانت رمزًا للانكماش الصناعي إلى مراكز نابضة بالإبداع والحياة الاقتصادية، وهي نماذج ملهمة تكشف عن قدرة الإبداع على إعادة تشكيل الجغرافيا الحضرية وإحياء ذاكرة المكان.

ففي برلين – ألمانيا، وبعد سقوط جدار برلين، تحولت المصانع والمستودعات المهجورة في أحياء مثل Mitte وPrenzlauer Berg إلى فضاءات فنية وثقافية نابضة بالحياة. ويُعد مبنى Kunsthaus Tacheles المثال الأبرز، إذ انتقل من متجر مهجور إلى مركز للفنون المعاصرة استضاف معارض وورشات وعروضًا موسيقية لسنوات طويلة، ليتحول إلى أيقونة في المشهد الثقافي الأوروبي.

أما في برشلونة – إسبانيا، فقد قدّم مشروع Poblenou Urban District تجربة مدهشة، حيث أعاد إحياء حي صناعي مهجور وحوّله إلى واحد من أبرز أحياء الإبداع في أوروبا. فصارت المصانع القديمة تحتضن شركات ناشئة، ومساحات عرض، ومراكز للتدريب الفني والثقافي، وأصبح الحي مثالًا على كيفية اندماج الاقتصاد الإبداعي مع التنمية الحضرية.

وفي تورينو – إيطاليا، يبرز مثال Lingotto ، مصنع السيارات الشهير لعلامة Fiat، الذي أعيدت تهيئته ليصبح مجمعًا متعدد الاستخدامات يضم قاعات عرض فنية، ومكتبة، وفندقًا. لقد انتقل المبنى من رمز للصناعة الثقيلة إلى رمز للتحول نحو الاقتصاد الإبداعي والثقافة المعاصرة، مجسدًا فكرة إعادة توظيف التراث الصناعي بما يخدم المستقبل.

أما بروكسل – بلجيكا، فقد شهدت مشروع Tour & Taxis، حيث جرى تحويل مستودعات النقل والبريد إلى فضاءات مخصصة للفن والثقافة وريادة الأعمال، في خطوة أعادت وصل الماضي الصناعي للمدينة بحاضرها الإبداعي.

وفي أمريكا اللاتينية، وتحديدًا في بوغوتا (كولومبيا) ومكسيكو سيتي (المكسيك)، برزت مبادرات مشابهة اعتمدت على شراكات بين السلطات المحلية ومؤسسات مانحة ورأس المال الخاص، لتتحول مواقع صناعية مهجورة إلى مراكز ثقافية واجتماعية ، تسهم في إحياء الأحياء الحضرية وتنشيط الاقتصاد المحلي، وتفتح المجال أمام المجتمعات للانخراط في أنشطة إبداعية منتجة.

التحديات البنيوية والفرص المستقبلية في تمويل الصناعات الثقافية بالأسواق الناشئة

تحديات التمويل في السياقات الثقافية الناشئة

حين ننظر إلى واقع الصناعات الثقافية في الأسواق الناشئة، نكتشف أن التحديات التي تواجهها لا تقتصر على قلة الموارد المالية، بل تتعداها إلى إشكالات بنيوية ومؤسساتية تعرقل انسياب التمويل المستدام من المصادر العامة والخاصة على حد سواء. هذه التحديات تتوزع عبر مستويات عدة، تكشف عمق الفجوة بين إمكانات القطاع وطموحاته.

ضعف البنية التحتية المالية والثقافية. فبرغم النمو الملحوظ في حجم التمويل الموجه إلى الثقافة، إلا أن معظم هذه الأسواق ما زالت تفتقر إلى آليات فعّالة لتقييم المخاطر، وأدوات مالية صُمّمت خصيصاً لتتلاءم مع طبيعة القطاع الإبداعي. يضاف إلى ذلك غياب مؤسسات تمويلية تمتلك خبرة حقيقية في خصوصيات هذا المجال لأن "التمويل المدمج لا يزال محكوماً بعوائق بنيوية تتمثل في غياب الأدوات الموحّدة لتقييم المخاطر، وضعف الشفافية في القطاع، ما يجعل الكثير من الفرص التمويلية غير مستغلة".

نقص البيانات والمعايير. فالمؤسسات الثقافية كثيراً ما تعجز عن تقديم بيانات مالية دقيقة أو مؤشرات أداء قابلة للقياس، وهو ما يقلل من قدرتها على كسب ثقة المستثمرين. وقد جاءت مبادرة Creativity, Culture & Capital لتؤكد في تقريرها التأسيسي أن "غياب المعايير الواضحة والمشتركة لقياس الأثر الثقافي والاجتماعي، يضعف من الجاذبية الاستثمارية للقطاع"، في إشارة إلى أن الأثر الثقافي والاجتماعي، برغم أهميته، لا يزال بلا مقاييس معيارية معترف بها دولياً.

محدودية الوعي الاستثماري داخل القطاع الثقافي. إذ ما زال عدد من الفاعلين الثقافيين ينظرون إلى المال باعتباره وسيلة للهيمنة أو تهديداً لاستقلاليتهم الفنية. هذه النظرة تولّد فجوة معرفية ونفسية تفصل بين عالم الإبداع وعالم الاستثمار. وقد كشفت مقابلات ميدانية أجريت في أوروبا وأمريكا اللاتينية أن "بعض المؤسسات الثقافية ترفض عمداً الدخول في منطق السوق، ما يحدّ من قابليتها للتطور طويل الأجل". وهنا يظهر التناقض: فبينما يسعى الفنانون للحفاظ على حريتهم، يجدون أنفسهم في عزلة عن موارد تمويل كان يمكن أن تفتح أمامهم آفاقاً أوسع.

فرص التحول الإيجابي في أفق 2030

رغم ما تواجهه الصناعات الثقافية في الأسواق الناشئة من عقبات معقدة، فإن المرحلة المقبلة تبدو حافلة بفرص جديدة يمكن أن تعيد تشكيل مشهد التمويل الثقافي. فهناك تحولات استراتيجية كبرى أخذت تترسخ في سياسات التنمية الدولية، حيث بدأت مؤسسات مثل البنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، والصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)، والمورد الثقافي، في اعتماد الثقافة بوصفها رافعة أساسية للتنمية المستدامة. وبهذا أصبح إدماج البعد الثقافي في مشاريع التحول الحضري، والعدالة الاجتماعية، والمدن الذكية، خيارًا مطروحًا وممكّنًا.

إلى جانب ذلك، يشهد العالم صعودًا متسارعًا لفكرة التمويل المستند إلى الأثر، وهو ما يمنح الصناعات الثقافية مساحة واسعة لتأكيد جدارتها. فهي بطبيعتها تملك القدرة على دعم الإدماج الاجتماعي، وتعزيز الهوية المجتمعية، وبناء جسور الثقة في مجتمعات متنوعة. وقد أشار تقرير Convergence حول التمويل المدمج إلى أن "المشاريع الثقافية المصممة جيدًا تمتلك قوة ناعمة قادرة على توليد عائد اقتصادي واجتماعي في آن واحد، ما يجعلها مؤهلة للتمويل طويل الأجل".

كما أن التحولات الرقمية أضافت بعدًا آخر لهذه الفرص. فقد أوجدت الرقمنة أدوات جديدة لم تكن متاحة من قبل: من منصات التمويل الجماهيري التي تسمح للجمهور بأن يكون ممولًا مباشرًا، إلى التذاكر الذكية والعقود المبنية على تقنية البلوك تشين (NFTs)، وصولًا إلى استخدام البيانات لتحليل سلوك الجمهور وتقدير القيمة السوقية للمشروعات. هذه الأدوات لا تفتح فقط مصادر تمويل مبتكرة، بل تقلّص الفجوة بين الفاعلين الثقافيين والمستثمرين المحتملين.

وأخيرًا، فإن بروز جيل جديد من المستثمرين الشباب ممن يجمعون بين الخلفية الإبداعية والرغبة في إحداث أثر مجتمعي أو بيئي، يمثل فرصة ذهبية. هؤلاء لا يبحثون عن الربح المالي وحده، بل عن قيمة مضافة تجعلهم جزءًا من "التحول الثقافي" الآخذ في التشكل، ما يمنح الصناعات الإبداعية مجالًا أرحب لبناء شراكات استراتيجية ومستدامة.

نحو منظومة تمويلية متكاملة للصناعات الثقافية في الأسواق الناشئة

التمويل بوصفه شريكًا في الإبداع لا مجرد ممول

في كثير من التجارب الناجحة حول العالم، لم يعد التمويل مجرّد أداة لسدّ فجوة مالية، بل تحوّل إلى شريك في العملية الإبداعية نفسها. فحين ننظر إلى طبيعة التحديات التي تعترض الصناعات الثقافية في الأسواق الناشئة، نجد أنّ الحلّ لا يكمن في ضخّ الأموال فقط، بل في بناء علاقة تكاملية تقوم على التشاور، والمرونة، والتخطيط طويل الأمد.

التمويل هنا يُعيد صياغة دوره: فهو ليس نهاية المسار، بل بداية لمسيرة مشتركة، يكون فيها شريكًا محفّزًا لبيئة تمكينية تحتضن الابتكار، وتعيد تعريف العلاقة بين الثقافة والاقتصاد، وتفتح قنوات ثقة بين الفنان والمستثمر، وبين الفكرة والسوق.

بهذا المعنى، يصبح التمويل رافعة استراتيجية قادرة على إطلاق الإمكانات الكامنة في الفعل الثقافي، وتوسيع أثره ليشمل البُعد الاجتماعي والاقتصادي على حدّ سواء، بما يضمن استدامة المشاريع الإبداعية واستمرار أثرها العابر للأجيال.

الركائز المقترحة لنظام تمويلي مستدام

حين نتأمل مستقبل التمويل الثقافي، ندرك أن بناء منظومة مستدامة لا يتحقق بقرارات معزولة أو حلول ظرفية، بل يحتاج إلى هندسة شاملة تستند إلى ركائز مترابطة. هذه الركائز تشكل بمجموعها الأساس الذي يمكن أن ينهض عليه اقتصاد إبداعي قادر على جذب الاستثمارات وضمان استمرارية الأثر.

أول هذه الركائز هي البنية التحتية المعرفية والبيانية. فغياب البيانات الدقيقة طالما كان عائقًا أمام إقناع المستثمرين. لذا يصبح من الضروري إنشاء مراصد وطنية وإقليمية لرصد بيانات الاقتصاد الإبداعي، وتطوير مؤشرات موحدة لقياس الأثر الثقافي والاجتماعي، مع الاستثمار في الدراسات السوقية وتحليل سلوك الجمهور. فالاعتماد على بيانات قابلة للقياس هو ما يعزز ثقة الممولين ويفتح المجال أمام دخولهم إلى قطاع الثقافة.

أما الركيزة الثانية، فهي الأدوات المالية المصممة خصيصًا للقطاع. فالصناديق التقليدية لا تكفي، بل نحتاج إلى صناديق تمويل مختلطة تجمع بين رأس المال العام والخاص، وتسهيلات ائتمانية ميسّرة لصالح المؤسسات الثقافية الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى آليات لضمان المخاطر التي تواجه المشاريع الإبداعية الناشئة، فتصميم منتجات مالية متخصصة هو مفتاح جذب الاستثمار طويل الأجل إلى القطاعات غير التقليدية مثل الثقافة.

الركيزة الثالثة تتعلق بـالمرافقة وتمكين القدرات. فلا يكفي توفير المال دون بناء الكفاءات. إذ ينبغي إطلاق برامج تدريب للفنانين والفاعلين الثقافيين في مهارات الإدارة والتمويل، وبالموازاة مع ذلك تطوير قدرات المستثمرين أنفسهم في فهم خصوصية المخاطر الثقافية. كما تبرز الحاجة إلى وسطاء ثقافيين قادرين على الترجمة بين لغة الفن ولغة المال، لردم الفجوة بين الإبداع والاستثمار.

وأخيرًا، تأتي الشراكات متعددة الأطراف باعتبارها الركيزة الرابعة. فالمشهد الثقافي يزدهر حين تتضافر جهود القطاع العام والخاص مع المؤسسات الثقافية والجهات المانحة.

إن إنشاء منصات وطنية للحوار بين المستثمرين والمبدعين وصنّاع السياسات يفتح المجال أمام توافق استراتيجي طويل الأمد. وقد أشار مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في توصياته للعام الدولي للاقتصاد الإبداعي، إلى أن "التعاون بين مختلف الجهات هو الطريق الأنجع لتعزيز التمويل المستدام للصناعات الثقافية".

إن هذا التداخل بين المعرفة، والأدوات المالية، وبناء القدرات، والشراكات، يوضح ملامح منظومة تمويلية جديدة، ليست مجرد وسيلة لدعم مشاريع ثقافية متفرقة، بل رافعة استراتيجية لتثبيت الثقافة كأحد أعمدة التنمية المستدامة.


عبد الرحمن لاهي